سفر وسياحة

سبع دول عربية تعيد رسم خريطة السياحة العالمية بنمو 44%

في الوقت الذي تكافح فيه معظم وجهات العالم لاستعادة أعداد السياح إلى ما كانت عليه قبل جائحة كوفيد-19، نجحت منطقة الشرق الأوسط في تجاوز هذه المستويات بفارق كبير يصل إلى 44% خلال الربع الأول من العام الجاري.

هذه النتائج، التي كشف عنها تقرير الباروميتر السياحي العالمي الصادر عن منظمة السياحة العالمية (UNWTO) في شهر ماي، تضع المنطقة في موقع فريد كونها الوحيدة التي لم تكتف بالتعافي، بل حققت نموا يفوق بكثير ما كان متوقعا.

وبينما سجلت المنطقة نموا متواضعا نسبيا بنسبة 1% مقارنة بالربع الأول من 2024، يفسر خبراء القطاع هذا الرقم بأنه يعكس استقرارا على مستويات عالية جديدة، وليس تباطؤا في الزخم. هذا الاستقرار يأتي بعد سنوات من النمو المتسارع الذي شهدته المنطقة منذ 2022.

دول الخليج والأردن في المقدمة

تشمل هذه النهضة السياحية سبع دول رئيسية هي المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة، دولة قطر، مملكة البحرين، دولة الكويت، سلطنة عمان، والمملكة الأردنية الهاشمية. هذه الدول طورت على مدى العقد الماضي استراتيجيات طموحة لتنويع اقتصاداتها والاستثمار بكثافة في القطاع السياحي.

النتائج المحققة تكتسب أهمية خاصة عند مقارنتها بأداء المناطق الأخرى. فبينما تمكنت أوروبا من تحقيق نمو محدود بنسبة 5% فوق مستويات 2019، وأفريقيا بنسبة 16%، لا تزال الأمريكتان تحت مستويات ما قبل الجائحة بنسبة 3%، وآسيا والمحيط الهادئ بنسبة 13%.

هذا التفوق الإقليمي لم يأت من فراغ، بل كان نتيجة استثمارات ضخمة في البنية التحتية وتطوير منتجات سياحية متنوعة وتحسين تجربة الزوار على مختلف المستويات.

الاستثمارات السعودية تعيد تشكيل الخريطة السياحية

تقود المملكة العربية السعودية هذا التحول من خلال برنامج استثماري ضخم يتجاوز 800 مليار دولار، وفق ما أعلنه وزير السياحة أحمد الخطيب. هذا الاستثمار يندرج ضمن رؤية 2030 (Vision 2030) التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على عائدات النفط.

في مقدمة هذه المشاريع تأتي مدينة نيوم (NEOM) بقيمة 500 مليار دولار، والتي تُعتبر أكبر مشروع تنموي في العالم. تضم نيوم مشروع “الخط” (The Line) الذي يمتد لـ 170 كيلومترا، ومنتجع “تروجينا” (Trojena) للرياضات الشتوية في منطقة تبوك، ومدينة “أوكساجون” (Oxagon) الصناعية العائمة.

يوازي ذلك مشروع البحر الأحمر (Red Sea Project) الذي يغطي مساحة 28 ألف كيلومتر مربع ويضم أكثر من 90 جزيرة طبيعية. يهدف المشروع إلى إنشاء وجهة سياحية فاخرة بـ 50 فندقا و8 آلاف غرفة، مع التزام صارم بمعايير الاستدامة البيئية.

كما تطور المملكة مدينة القدية (Qiddiya) جنوب الرياض لتصبح عاصمة الترفيه والرياضة، وتشمل مضمار سباق للفورمولا وان ومدينة ألعاب “سيكس فلاجز” (Six Flags) ومجمع “أكوارابيا” (Aquarabia) المائي.

في منطقة العلا التاريخية، تخطط المملكة لزيادة السعة الفندقية من 824 غرفة في 2024 إلى 5500 غرفة بحلول 2030، إلى جانب توسعة مطار العلا ليستوعب 6 ملايين مسافر سنويا مقارنة بالطاقة الحالية البالغة مليوني مسافر.

الإمارات تعزز ريادتها العالمية

دولة الإمارات العربية المتحدة، التي ترسخت كوجهة سياحية رائدة عالميا، تواصل تطوير قطاعها السياحي من خلال مشاريع طموحة جديدة. سجلت إمارة دبي وحدها 18.72 مليون زائر دولي في 2024، بنمو 9% مقارنة بـ 17.15 مليون في 2023، وفق بيانات دائرة الاقتصاد والسياحة في دبي (DET).

تشير الأرقام الفندقية إلى قوة الأداء، حيث بلغ متوسط الإشغال 78.2% مقارنة بـ 77.4% في 2023، ومتوسط السعر اليومي 146 دولارا مقارنة بـ 145 دولارا، بينما ارتفع العائد لكل غرفة متاحة (RevPAR) إلى 114 دولارا من 112 دولارا.

تنفذ الإمارات حاليا مشاريع توسع ضخمة تشمل المحطة الجديدة لمطار آل مكتوم الدولي (Al Maktoum International Airport) بتكلفة 128 مليار درهم، والتي ستجعله أكبر مطار في العالم بطاقة استيعابية تصل إلى 260 مليون مسافر و12 مليون طن من البضائع سنويا.

يضاف إلى ذلك مشروع “تصريف” (Tasreef) لتطوير شبكة تصريف مياه الأمطار في دبي بكلفة 30 مليار درهم، والذي سيزيد الطاقة الاستيعابية بنسبة 700%. كما تخطط دبي لتوسيع مركز دبي التجاري العالمي لمضاعفة عدد الفعاليات الكبرى من 300 إلى أكثر من 600 سنويا بحلول 2033.

على صعيد المشاريع السياحية الجديدة، يبرز مشروع مرسى العرب (Marsa Al Arab) الذي يضم فندقا فاخرا وشققا مخدومة و4 أجنحة فاخرة ونادي يخوت ومرسى بـ 128 رصيفا، إلى جانب 9 فلل فاخرة.

قطر تستثمر إرث كأس العالم 2022

استطاعت دولة قطر الاستفادة بشكل استثنائي من استضافة كأس العالم 2022، حيث حققت أعلى معدل نمو سياحي عالمي خلال الأشهر التسعة الأولى من 2023 بزيادة 91% مقارنة بمستويات 2019، وفق تصنيف منظمة السياحة العالمية.

هذا الإنجاز جاء بعد استثمار 300 مليار دولار في البنية التحتية خلال العقد الماضي، لم يكن مخصصا لكأس العالم فقط، بل كجزء من رؤية قطر الوطنية 2030 (Qatar National Vision 2030) لتنويع الاقتصاد وتطوير القطاعات غير النفطية.

تواصل قطر الاستثمار في مشاريع جديدة، منها الخط الأزرق (Blue Line) كجزء من المرحلة الثانية لتوسعة مترو الدوحة، و22 مشروعا جديدا بقيمة إجمالية تبلغ 2.7 مليار دولار ضمن خطة النقل 2050 (Transport Plan 2050).

كما تستثمر البلاد أكثر من 81 مليار ريال قطري (22.3 مليار دولار) في مشاريع البنية التحتية للصرف الصحي ومكافحة الفيضانات وتطوير شبكات المياه، مما يعكس التزاما طويل المدى بتطوير البنية التحتية.

دول الخليج الأخرى تنافس بقوة

تشهد بقية دول مجلس التعاون الخليجي أيضا نموا ملحوظا في القطاع السياحي. مملكة البحرين تعزز جاذبيتها من خلال سياسات التأشيرات المرنة وتنظيم فعاليات رياضية كبرى مثل جائزة البحرين الكبرى للفورمولا وان (Bahrain Grand Prix)، إلى جانب الاستثمار في تطوير المجمعات السياحية والثقافية الجديدة.

سلطنة عمان تركز على تطوير نمط السياحة البيئية والمستدامة، مع استثمارات في تطوير مسارات المشي والتخييم (Hiking and Camping Trails) والمنتجعات الفاخرة التي تتناغم مع البيئة الطبيعية. هذا التوجه يجذب شريحة متزايدة من السياح الذين يبحثون عن تجارب أصيلة بعيدة عن الصخب.

دولة الكويت تستثمر بدورها في تطوير السياحة الثقافية (Cultural Tourism) من خلال إنشاء متاحف جديدة ومراكز تراثية ومرافق ترفيهية عائلية، مما يعزز جاذبيتها كوجهة للسياحة الداخلية والإقليمية.

الأردن يستثمر في كنوزه الأثرية

المملكة الأردنية الهاشمية، رغم التحديات الإقليمية، تواصل الاستفادة من مواقعها الأثرية الاستثنائية مثل البتراء (Petra) ووادي رم (Wadi Rum) وجرش والبحر الميت. تعمل المملكة على تطوير البنية التحتية السياحية وتبسيط إجراءات الحصول على التأشيرات، مما ساهم في زيادة أعداد الزوار تدريجيا.

شركات الطيران تدعم النمو السياحي

لعبت شركات الطيران الإقليمية دورا محوريا في دعم هذا النمو السياحي الاستثنائي. تشير بيانات شركة OAG المتخصصة في تحليل قطاع الطيران إلى أن شركات الطيران منخفضة التكلفة تمثل 30% من إجمالي السعة في المنطقة اعتبارا من مايو 2025، بنمو 11.3% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.

تواصل شركات الطيران الرئيسية مثل طيران الإمارات (Emirates) والخطوط الجوية القطرية (Qatar Airways) والخطوط السعودية (Saudia) توسيع شبكاتها وتحديث أساطيلها. على سبيل المثال، تخطط شركة فلاي دبي (flydubai) لإضافة 200 طائرة ضيقة البدن بحلول 2025، بينما أعلنت الخطوط الجوية القطرية عن صفقة لشراء ما يصل إلى 210 طائرة من طرازي بوينغ 787 دريملاينر و777X بقيمة 96 مليار دولار.

هذا التوسع في شبكات الطيران لا يعني زيادة عدد الرحلات فقط، بل تحسين الاتصال بين المنطقة والأسواق العالمية، وتوفير خيارات أكثر للمسافرين بأسعار تنافسية، مما يجعل المنطقة أكثر جاذبية للسياح من مختلف الشرائح الاقتصادية.

تنويع المنتج السياحي والفعاليات الكبرى

نجحت دول المنطقة في تنويع منتجاتها السياحية بما يتجاوز السياحة التقليدية. تستضيف المنطقة الآن تقويما مزدحما من الفعاليات على مدار السنة، مما يضمن تدفقا مستمرا للزوار.

تشمل هذه الفعاليات مهرجان دبي للتسوق (Dubai Shopping Festival) الذي يجذب ملايين الزوار سنويا، وجائزة أبوظبي الكبرى للفورمولا وان (Abu Dhabi Grand Prix)، ومعرض آرت دبي (Art Dubai) للفنون المعاصرة، وموسم الرياض (Riyadh Season) في السعودية الذي يضم عشرات الفعاليات الترفيهية والثقافية.

حتى الحفلات الموسيقية أصبحت جزءا مهما من الجذب السياحي. حفل فرقة كولدبلاي (Coldplay) في أبوظبي في يناير 2025 مثال حديث على قدرة المنطقة على استقطاب النجوم العالميين وجذب عشاق الموسيقى من قارات مختلفة.

تحديات النمو المستدام

رغم النجاحات المحققة، تواجه المنطقة تحديات حقيقية تتطلب إدارة حكيمة. أبرز هذه التحديات إدارة الضغط المتزايد على البنية التحتية، خاصة في المطارات والطرق والمرافق العامة خلال مواسم الذروة.

التحدي الآخر يتمثل في ضرورة الحفاظ على البيئة الطبيعية والتراث الثقافي في ظل النمو السريع. تطبق مشاريع مثل البحر الأحمر ونيوم معايير بيئية صارمة، لكن التوسع السريع في البناء والتطوير يتطلب مراقبة مستمرة لضمان الاستدامة.

من ناحية أخرى، تحتاج المنطقة إلى تطوير الكوادر البشرية المتخصصة في القطاع السياحي، من إدارة الفنادق إلى الإرشاد السياحي والخدمات المتنوعة، لضمان جودة الخدمة مع تزايد أعداد الزوار.

الاستثمار في التكنولوجيا والتحول الرقمي

تستثمر حكومات المنطقة بكثافة في التكنولوجيا لتحسين تجربة الزوار وتسهيل إجراءات السفر. تشمل هذه الاستثمارات تطوير أنظمة التأشيرات الإلكترونية (e-Visas) وتطبيقات الهواتف الذكية للسياح وأنظمة الدفع الرقمي.

كما تعمل الدول على تطوير ما يُعرف بـ “المدن الذكية” (Smart Cities) التي تستخدم التكنولوجيا لتحسين الخدمات وتسهيل التنقل. دبي ونيوم مثلان بارزان على هذا التوجه.

التوقعات المستقبلية للقطاع

تشير التوقعات إلى استمرار النمو في القطاع السياحي عالميا. تتوقع منظمة السياحة العالمية نموا بنسبة 3% إلى 5% سنويا في السياحة الدولية، والشرق الأوسط في موقع مناسب للاستفادة من هذا النمو بفضل الاستثمارات الضخمة والمشاريع تحت التنفيذ.

مؤشر الثقة الذي تصدره المنظمة يُظهر توقعات إيجابية لفترة مايو-أغسطس 2025، رغم مخاوف من تأثير التوترات التجارية العالمية على قطاع السياحة.

من المتوقع أن تساهم المشاريع الجديدة قيد الإنشاء في زيادة الطاقة الاستيعابية للمنطقة بشكل كبير. السعودية وحدها تخطط لإضافة مئات الآلاف من الغرف الفندقية خلال السنوات القادمة، بينما تواصل الإمارات وقطر تطوير مرافق جديدة.

الأثر الاقتصادي الواسع

تجاوز تأثير النمو السياحي القطاع ذاته ليشمل قطاعات اقتصادية أخرى. بلغت العوائد الإجمالية من السياحة الدولية عالميا 2 تريليون دولار في 2024، بنمو 11% عن العام السابق، وهو ما يمثل 6% من إجمالي الصادرات العالمية و23% من التجارة العالمية في الخدمات.

في منطقة الشرق الأوسط، ساهم القطاع السياحي في خلق فرص عمل جديدة وتطوير القطاعات المساندة مثل النقل والتجارة والخدمات اللوجستية. كما دفع النمو السياحي إلى تطوير قطاعات أخرى مثل الطيران المدني والضيافة والترفيه.

تؤكد النتائج المحققة في الربع الأول من 2025 أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد مجرد وجهة سياحية ناشئة، بل أصبحت قوة عالمية في القطاع. النمو بنسبة 44% فوق مستويات ما قبل الجائحة ليس رقما عابرا، بل يعكس تحولا جذريا في تفضيلات المسافرين العالميين واستراتيجيات التطوير السياحي.

هذا النجاح جاء نتيجة استثمارات مدروسة وطويلة المدى في البنية التحتية وتنويع المنتج السياحي وتحسين تجربة الزوار. المنطقة اليوم تقدم مزيجا فريدا من التراث الأصيل والحداثة المتطورة، مما يجعلها جاذبة لشرائح متنوعة من السياح.

التحدي الآن يكمن في المحافظة على هذا الزخم وإدارة النمو بطريقة مستدامة تحافظ على البيئة والتراث وتضمن استفادة المجتمعات المحلية من هذا التطور. المؤشرات الحالية تُشير إلى أن المنطقة تسير في الاتجاه الصحيح لتحقيق هذا الهدف، مما يُبشر بمستقبل واعد للقطاع السياحي في المنطقة.

اقرأ أيضا:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى