آخر الأخبار

“توهج فاس”: كيف تسعى العاصمة الروحية لاستعادة بريقها السياحي؟

بينما تشتد المنافسة السياحية على المستوى الوطني والدولي، تخوض جهة فاس-مكناس معركة حقيقية لاستعادة توهجها كإحدى أبرز الوجهات المغربية. فقد أطلق المكتب الوطني المغربي للسياحة مؤخرا مبادرة “توهج فاس” ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى إعادة تموقع هذه المدينة العريقة على الخريطة السياحية الدولية.

وتأتي هذه المبادرة في توقيت مناسب، حيث حقق المغرب رقما قياسيا بوصول 17.4 مليون سائح في 2024، محققا نموا بنسبة 20% مقارنة بالعام السابق. غير أن هذا النجاح الوطني يطرح تساؤلا مهما: كيف يمكن لفاس-مكناس أن تضمن حصتها العادلة من هذا الزخم المتنامي؟

استراتيجية ثلاثية الأبعاد

للإجابة على هذا التساؤل، طور المكتب الوطني المغربي للسياحة استراتيجية واضحة المعالم. فالهدف المعلن، حسب أحمد السنتيسي رئيس المجلس الجهوي للسياحة بفاس-مكناس، هو إعادة المنطقة إلى “مكانها الطبيعي ضمن أول ثلاث وجهات وطنية”، وهو طموح يتطلب تضافر جهود متعددة المستويات.

لتحقيق هذا الهدف، تقوم المبادرة على ثلاثة محاور متكاملة. أولها يركز على تعزيز الحضور الإعلامي من خلال إنتاجات سينمائية ووثائقية عالية الجودة. فقد بثت قناة TV5 Monde في مايو 2025 وثائقيا مخصصا لفن الطبخ الفاسي، بينما تعمل France 2 على إنتاج فيلم عن الحرفيين المغاربة. وبموازاة ذلك، ستخصص قناة M6 حلقة من سلسلة “Minute Voyage” لمدينة فاس، في حين تحضر هيئة الإذاعة البريطانية BBC حلقة من برنامج “Clive Myrie’s African Adventure” مكرسة بالكامل لهذه المدينة التاريخية.

أما المحور الثاني فيتعلق بتقوية الشراكات التجارية، حيث تم تطوير حملتين استراتيجيتين مع شركتي Carrefour Voyages و Havas Voyages في فرنسا، تتمحوران حول ثلاثية “فن الطبخ والتراث والحرف التقليدية”. وفي السياق نفسه، تم تنظيم ورشة عمل مع منصة Voyage Privé، إلى جانب المشاركة في معرض Travel Connect في إسبانيا.

وهكذا، فإن هذين المحورين يمهدان الطريق أمام المحور الثالث والأكثر تحديا، وهو تحسين الربط الجوي الذي يشكل القلب النابض لأي استراتيجية سياحية ناجحة.

تحدي الربط الجوي والحلول المبتكرة

لا يتردد السنتيسي في وصف الربط الجوي بأنه “تحد للمنطقة”، وهو اعتراف صريح بإحدى أبرز العقبات التي تواجه طموحات فاس-مكناس. ذلك أن المنطقة تجد نفسها في منافسة مباشرة مع وجهات أخرى تتمتع بربط جوي أفضل، مثل مراكش والدار البيضاء.

لمواجهة هذا التحدي، يقوم المكتب الوطني للسياحة بـ”مقاربة شركات الطيران، بلدا تلو الآخر ووجهة تلو الأخرى، لجذبها نحو مطار فاس سايس”. وتستفيد هذه الجهود من “الدعم الكبير” الذي تقدمه ولاية الجهة والمكتب الوطني المغربي للسياحة، مما يعكس إرادة سياسية حقيقية لتطوير هذا القطاع الحيوي.

الشراكة الأندلسية: نموذج للتعاون الإقليمي

وسط هذه الجهود المحلية، تبرز زيارة وفد اتحاد وكالات السفر الأندلسية كنموذج مثالي للتعاون الإقليمي المثمر. فهذا الوفد، الذي يمثل نحو 1600 وكالة سفريات، لم يأت إلى فاس-مكناس بمحض الصدفة، بل نتيجة لعلاقات اقتصادية متينة بين المغرب وإسبانيا.

فقد وصلت العلاقات التجارية بين البلدين إلى مستويات قياسية في 2024، حيث أصبح المغرب المتلقي الأول للصادرات الإسبانية في أفريقيا والسابع عالميا. هذا التطور الاقتصادي ينعكس بطبيعة الحال على إمكانيات التعاون السياحي، خاصة وأن الأندلس تمثل، حسب تعبير السنتيسي، “سوقا مرسلا مهما للسياحة المغربية بسبب القرب الجغرافي والروابط التاريخية”.

وقد شمل برنامج الزيارة اكتشاف مدينة فاس العتيقة المدرجة ضمن التراث العالمي لليونسكو، والمدينة الإمبراطورية مكناس، إضافة إلى إقليم مولاي يعقوب المشهور بينابيعه الحارة. وبهذا التنوع في العرض السياحي، تمكنت المنطقة من إظهار إمكانياتها المتعددة في السياحة الثقافية وسياحة العافية على حد سواء.

كأس العالم 2030: الرافعة الكبرى

بينما تتركز الجهود الحالية على البناء التدريجي لقاعدة سياحية متينة، تلوح في الأفق فرصة استثنائية قد تغير معادلة السياحة المغربية برمتها. فاستضافة المغرب لكأس العالم 2030 بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال تحمل إمكانيات هائلة، إذ تشير التوقعات إلى استقبال 26 مليون سائح، وهو رقم يفوق بكثير الأرقام الحالية.

غير أن هذه الفرصة تحمل في طياتها تحديات جديدة. فوزيرة السياحة فاطمة الزهراء عمور تحذر من مخاطر “السياحة المفرطة”، مشددة على ضرورة ألا يقتصر التفكير على “كأس العالم والمدن الست المضيفة”. وهنا تكمن الفرصة الذهبية لمناطق مثل فاس-مكناس.

فبدلا من أن تكون مجرد متفرج على هذا الحدث العالمي، تستطيع المنطقة أن تطور منتجات سياحية مكملة تجعل من زيارتها إضافة حقيقية لتجربة السائح. وهذا ما يفسر سعي المغرب لتطوير 32 “نظاما بيئيا” إلى جانب المدن المضيفة، بهدف توزيع الطلب السياحي وجذب المستثمرين من القطاع الخاص.

التنويع في الأسواق: استراتيجية متوازنة

وبموازاة الاستعداد لهذا الحدث الكبير، تواصل فاس-مكناس سعيها لتنويع أسواقها السياحية. فبعد النجاح الذي حققته مع الوفد الأندلسي، تم تنظيم ورش عمل لاستكشاف السوقين الهولندي والبلجيكي، كما تخطط المنطقة للمشاركة في جولات ترويجية في عدة بلدان أخرى.

هذا التوجه نحو التنويع لا يقتصر على الأسواق الأوروبية التقليدية، بل يشمل أيضا أسواقا ناشئة. فقد استقبلت المنطقة مؤثرين كوريين وصحفيين من جنسيات مختلفة لتغطية فعاليات مهمة مثل مهرجان فاس للموسيقى المقدسة. وبهذا الانفتاح المتوازن، تسعى المنطقة لتقليل اعتمادها على أسواق محددة وبناء قاعدة سياحية أكثر تنوعا واستدامة.

السياق الوطني: موقع فاس في الصورة الكبيرة

لا يمكن فهم جهود فاس-مكناس بمعزل عن الإنجاز الوطني الكبير الذي حققه المغرب في القطاع السياحي. فالمملكة تصدرت قائمة أفضل الوجهات السياحية أداء في 2025 إلى جانب إسبانيا واليابان، مسجلة نموا بنسبة 22% في الربع الأول من العام. هذا النجاح الوطني يخلق بيئة إيجابية تستطيع فيه جميع المناطق، بما في ذلك فاس-مكناس، أن تزدهر وتنمو.

كما أن الاستراتيجية المغربية للفترة 2023-2026 تضع أسسا متينة لتطوير القطاع السياحي الذي يساهم بـ 7% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي النصف الأول من 2024، استقبل المغرب 7.4 مليون سائح، بزيادة 14% مقارنة بنفس الفترة من 2023، مما يعكس قوة الجاذبية المغربية وتنامي الثقة الدولية في الوجهة.

وهكذا، فإن ما تشهده فاس-مكناس اليوم يعكس محاولة جدية لتعزيز موقعها السياحي وسط منافسة وطنية ودولية متزايدة. فالمقومات الأساسية متوفرة: تراث عريق يشمل مدينة فاس العتيقة المدرجة ضمن التراث العالمي، وموقع جغرافي مميز، وثقافة أصيلة، وإمكانيات متنوعة في السياحة الثقافية وسياحة العافية.

مع ذلك، تواجه المنطقة تحديات حقيقية، أبرزها مسألة الربط الجوي التي تتطلب حلولا مبتكرة واستثمارات كبيرة. كما أن نجاح الاستراتيجية سيعتمد على قدرة جميع الأطراف المعنية على التنسيق الفعال والتنفيذ المهني للخطط الموضوعة.

من جهة أخرى، تمثل كأس العالم 2030 والشراكات الدولية المتنامية فرصا حقيقية يمكن أن تساهم في تطوير القطاع السياحي بالمنطقة، شريطة الاستعداد الجيد والتخطيط المدروس. وسيكون من المهم متابعة تطور هذه المبادرات وقياس نتائجها الفعلية على أرض الواقع خلال الأشهر والسنوات القادمة.

اقرأ أيضا:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى